- صباح الورد من بيروت . أنا الصحفى : عدنان الأمين ,
أكتب الآن من شرفة مكتبى المطل على البحر , أنتظر فتاتى الجميلة , زوجتى الناعمة , تأتى , تقبل جبهتى , تباركنى بحنوها , فأبدأ صباحى ....
زوجتى تصغرنى بخمسة عشر عاماً , تعمل معى هنا , هى الأقرب من النفس للنفس ومن الروح للروح , أعهدها دوماً ناضجة راقية كبحر بيروت , دافئة كطفلٍ , حكيمة كأم ,
أما أنا فكما وعدتها أول مرة , أنا الزوج والأب والحبيب الذى لن يقسو أبداً على قلبها المبارك , وقلب طفلتينا الجميلتين ...
- أنا هنا , لقد أتيت يا عزيزى
ها هى قبلتى على جبينك الوردى , صباحك خير .
أما اليوم يا أستاذى الفاضل وزوجى الجميل ؛ فإنى أستأذنك أن أغادر العمل باكراً , فإن شقيقتى ستصل اليوم لمطار بيروت وعلىَّ بالطبع أن أستقبلها وأصطحبها إلى المنزل .
- آه . أخيراً ستأتى سلمى ويسكن قلبك يا حبيبتى ويطمئن ,
أعلم كم إشتقتى إليها ولكن , بالطبع ياحلوتى لن أتركك تذهبين بمفردك وأنتِ تشعين نوراً هكذا ...
- ستأتى معى ؟
- بالطبع , وهل وحدك من اشتقتى لسلمى ؟
أنا أيضاً اشتقت إليها كثيراً وزهرتان المنزل سيصيبهما الجنون حين تأتى إليهما خالتهما التى ينتظرانها كل عام :)
- حزرت . إذن لنحتسى كوباً من القهوة ونذهب سريعاً كم انتظر لقائها بفارغ الصبر !
- وبالطبع هى كذلك , تشتاقك حد الموت يا سليمى ..
.........
- تسألنى الآن كيف التقيت بسليمى وتزوجتها ؟
حسناً , قد كان هذا منذ مايقرب من اثنتى عشرة عاماً ,
حيث التقيتها أول مرة فى معرض الكتاب بمصر , وقد كنت هناك وقتئذٍ أقوم بلقاء أأتى من أجله كل عام , حيث أسجل لقاءات مع أفضل كتاب المعرض لتلك السنة , وأتطلع على الكثير من الأعمال المقدمة حديثاً وأختار من بينها عملاً واحداً مميزاً أكتب عنه فى جريدتى ببيروت , وكان للجريدة جمهورها الكبير من كل أنحاء العالم ممن ينتظرون مقالى السنوى من المعرض !
وكانت سليمى قد أتت إلى المعرض هذه المرة , لا لتقابل أحد الكتاب , ولا لتنل توقيعاً , ولا لتشترى كتباً أو تحضر إحدى الندوات , بل جاءت فقط لتلتقينى ...!
..........
-أجل بالطبع ذهبت كى ألتقيه , وأحبه , وأتزوجه - كما أراد القدر - !
أما حينها فلم أكن أدرى شيئاً عن إرادة القدر بل ذهبت لرغبة ملحة بداخلى وهى ؛ كتابات سلمى ..!
صباح الخير أولاً . أنا سليمى رزق . تلك الصغيرة التى أحبت أختها كثيراً وتمنت ذات يوم أن تكون هى ,
أنا الآن أحضر قهوة الصبح لزوجى ومنقذى الرائع : عدنان .
تسألنى لماذا ذهبت وقتها إلى معرض الكتاب بحثاً عن عدنان الذى لم أكن أعرفه قبلاً ؟
سأروى لكم قصتنا ؛
قصة الفتاة ذات السادسة عشر عاماً والبطل الأسطورى الذى أتى من بيروت كى يحملنى على ظهره ويجعل لى أربع أرجل وأربع أيادٍ وقلبين , فلقد أعطانى كل شىء حتى أننى لم أستطع أن أظهر له إمتنانى . لكننى طلبته للزواج !
- عندما توفى أبى اعتادت شيطانتى الجميلة أن تكتب الكثير , قصص , خواطر , روايات , وكانت تغضب كثيراً إن قرأها أحد وكان مصير معظم تلك الكتابات الصغيرة ؛ إلقائها بيد سلمى نفسها فى سلة القمامة ,
لكننى كنت من أشد المعجبين بها , فكنت دائماً أفتش القمامة وأجمع كل كتابات سلمى وأحتفظ بها ولا أدرى ماذا سأفعل بها , لكننى كنت أشعر أنها ذات أهمية كافية أن تحفظ لا أن تلقى هكذا !
وعندما أتممنا السادسة عشر , قد لاحظت أن كتابات سلمى قد نضجت كثيراً وأصبحت رواياتها بنظرة واقعية ككاتبة محترفة فقررت أخيراً ألا أستردها كعادتى من سلة القمامة , بل سأسرقها هذه المرة !
قررت أن أسرقها جميعاً واحدة تلو أخرى , وعندما رأتنى جدتى أول مرة أفتح مكتب سلمى وأخبىء القصص فى مكتبى ؛ نهرتنى بشدة وسمعتها سلمى ومن يومها وهى تنادينى بالسارقة !
حقيقةً , لم تكن سلمى تبالى أن أسرق كتاباتها لكنها فقط كانت تجمع كافة الأدلة الكونية كى تكرهنى أكثر !
بالإضافة أنها لم تعترف يوماً بما تكتب . بل كانت فقط تفرغ على الورق شحنات غضبها الذى لا يسكن ,
وأنا أيضاً لم أكن أبالى بكونى السارقة فى نظر جدتى وسلمى . كان فقط هدفى الوحيد هو إنقاذ تلك الأوراق الوحيدة !!!
فى تلك الأوقات قرأت عن صحفى كبير من بيروت , يأتى إلى مصر مرة كل عام ليكتشف المواهب الحقيقية من بين المؤلفين الجدد , لذا وضعت نصب عينى أن أقابله ...
استيقظت باكراً بينما كانت سلمى نائمة لتوها , وأخذت معى حقيبة بكل القصص والروايات التى كنت أقوم بجمعها من خزانة سلمى على مر السنين , وذهبت مباشرة إلى المعرض ,
أين الصحفى عدنان الأمين ؟ أين هو ؟ هل تدلنى عليه ؟ فى أى صالة هو الآن ؟ مع أى كاتب يجرى حواراً الآن ؟ لا يمكن أن أفقده هذه المرة ويعود إلى بيروت بدون أن يقرأ ما جلبت معى ؟ أين هو ؟؟؟؟؟؟
ها هو ذا . أخيراً وجدته ....!!!!
كان معطفه يشبه المعطف الذى يرتديه فارس أحلامى الساكن فى خيالاتى , ربما بسبب عينيه اللامعتين , أو صوته , لا أدرى ولكن , ربطتنا أنا وعدنان صداقة قوية للغاية منذ تقابلنا أول مرة ,
أذكر أننا منذ اللحظة الأولى لم نشعر أبداً بفارق العمر , ولا بما يجرى بالمعرض , جلسنا نتحدث طويلاً , ونحتسى قهوتنا , شعرت أننى منه وهو منى , سألنى حينها بعد حديث دار سبعة ساعات :
لماذا تكبدتى كل هذا العناء , واحتملتى صفة سارقة , واحتملتى المسافة , والزحام , فقط لتساعدى سلمى فى نشر مؤلفاتها ؟
فأجبته :
لعلها يوماً تجد ذكرى بيننا جيدة , فتستسلم وتسامحنى , أو لعلها تنظر لوجهى مرة وتبتسم !
كان عدنانى دافئاً ملهماً عوناً وسنداً منذ اليوم الأول ,
بعد شهر فقط نشرت الرواية الأولى لسلمى ....
لم تكن سلمى على علم بنشر روايتها فلقد أعتنى بها عدنان وحده من تجميع وتصحيح ونشر ,
وعندما ظهر عدنان فى أول لقاء تليفزيونى بعد صدور الرواية , وسئل عن سبب إختياره لسلمى ككاتبة هذا العام الذى أختارها دوناً عن باقى المؤلفين الجدد من المعرض ؟
قال عدنان : سأخبركم بإعتراف وإهداء فى آن واحد ؛
أما الإعتراف ؛ فإن سلمى كاتبة ذات بريق خاص , بريق الحزن والواقعية , سلمى مميزة سواء كانت إنسانة أو كاتبة , وبرغم صغر سنها إلا أن روايتها قد أقتحمته منذ اللحظة الأولى ...
أما الإهداء فقال : " إلى سليمتى . ذات العينين الرائعتين . أراكِ الآن تبتسمين وتتمتمين هامسة : لقد وضعنا سلمى فى مأزق لا مهرب منه وقمنا بنشر الرواية وها هى ستستيقظ تجد روايتها أخيراً قد عرفت النور وعرفها , فلا ضير حتى وإن ضربتنا الآن بالعصا ,
لكن يا صغيرتى سليمى سأتحمل عنكِ العصا وأعانقك وأخبركِ أننى أحبك ..."
- ماذا فعلت جدتى وسلمى حين علما بالأمر ؟
إبتسمت سلمى بهدوء , وكأنها شيطان تائب قد ترقى لرتبة ملاك ,,وهمست بصوت لا يسمع إلا بمسافة قرب شبراً : شكراً لكِ ولصديقكِ الصحفى السخيف الذى يعلن حبه لكِ على التلفاز !
بالطبع لم أصدق أنها شكرتنى !!!
- أما جدتى فحين علمت بالأمر بكت , وقالت :
الحمد لله الذى يجيب الدعوات . ويقبل الصلوات !!!!!
...يتبع...